top of page

د. علاء جانب: القصيدة هي التي بعينيها تحرك النجوم

تاريخ التحديث: ١ نوفمبر ٢٠٢٣


د.علاء جانب
د. علاء جانب

دينا الشيخ
دينا الشيخ

حوار

إعداد: دينا الشيخ

كم هي مشوقة هذه الحياة! نأتي إليها ونتدرج في فهمها وتذوقها، شيئًا فشيئًا، ولكلٍّ نظرته وفلسفته التي تكبر أو تتغير أو تظلّ بين بين، ولكن عندما تعرف من أنت وماذا تريد، فتسعى له وتؤدي حقه، عندها ستطوقك الدهشة بذراعيها الراسختين في العطاء.

دكتور علاء جانب؛ اسم مفرداته العلم، والعمل، والإبداع،

هو الروح المصريّة، بتاريخها الإنسانيّ والحضاريّ، هو البساطة في فخامتها غير المتكلفة، حاورته سيقلس بوست، فتدفّق محبة وفكرًا!

الدكتور علاء أحمد السيد عبد الرحيم جانب

لقبه: شاعر الأزهر، وأمير الشعراء، أستاذ الأدب والنقد في كليّة اللغة العربيّة بالقاهرة جامعة الأزهر، ومستشار الأنشطة الثقافيّة بمكتب رئيس جامعة الأزهر، وممثل مؤسسة الأزهر لدى وزارة التعليم العالي لإعداد استراتيجيّة الولاء والانتماء لطلائع مصر بترشيح من مجلس الجامعة.

حصل على المركز الأول ولقب أمير الشعراء في جائزة أمير الشعراء من هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث بالإمارات العربيّة المتّحدة لعام ٢٠١٣م، وعلى لقب شاعر الأزهر في عام ٢٠١٩.

حصل على المركز الأول في جائزة كتارا عن قصيدته "كما يلتقي البحران " في مديح السيدة خديجة رضي الله عنها.

أزهريّ مالكيّ، يؤمن بوسطيّة الإسلام، ويعتقد بحق الناس في التجاور والتعايش السلمي، ويهدف إلى ذلك من خلال كتاباته الشعريّة والإبداعيّة الأخرى.


الحوار:

- قال مولانا جلال الدين الرومي: "دين الحب منفصل عن كل أشكال الديانات، العاشقون أمّة واحدة ودين واحد وهذا هو الله."، هل يمكن للشاعر أن يكون شاعرًا بغير الحب؟

هنا إشكاليّة فلسفيّة قد يبدو فيها أنها تتصادم مع الشرائع السماويّة، وكأنّ الحب دين مغاير لما عليه الديانات، كما قد يفهم الحرفيّون من بيت ابن عربي:

لَقَد صارَ قَلبي قابِلًا كُلَّ صورَةٍ فَمَرعىً لِغِزلانٍ وَدَيرٌ لِرُهبانِ

وَبَيتٌ لِأَوثانٍ وَكَعبَةُ طائِفٍ وَأَلواحُ تَوراةٍ وَمُصحَفُ قُرآنِ

أَدينُ بِدَينِ الحُبِّ أَنّي تَوَجَّهَت رَكائِبُهُ فَالحُبُّ دَيني وَإيماني

ولكن مع التأمل نجد أن الحب هو جوهر ما دعت إليه الأديان، وهو الجامع بين الكائنات على أساس من الحق والخير والجمال.. فالحق والخير والجمال منبعها الحب، الذي يربط بين الكائنات، (الحب هو المشاعر الذي تتفجر منه)، وهو أساس من أصول الأخلاق التي إليها ترجع جميع الأخلاق وتتفرع عنها من العقل، والحكمة، والعفة والشجاعة.

حتى الكره، والغضب، والحرب، مشاعر متفرعة عن الحب، فالذي يكره يكره شيئًا وقف في سبيل ما يحبّ فعادى من أجل حب، والذي يحارب استجاب لداعي الغضب الذي قررنا آنفًا أنّه كان من أجل الحب، وهكذا، فلا يمكن أن يكون هناك فنٌّ - فضلًا عن الشعر- بدون حب، بأشكال الحب وتجلياته المختلفة: لمعنى، أو شخص، أو شيء، لأن الفنون معنيّة بما هو إنسانيّ مشترك عام، وليس هناك مثلُ الحب مشتركًا بين الكائنات كلّها.

علاء جانب


-الشاعريّة، ما هي عناصرها ومراحل تجليها لدى الشعراء، ومتى يهب الشاعر القصيدة كلَّه؟

الشاعريّة شيء موجود بالقوّة، القصيدة تخرجه إلى الوجود، إذ تجعل له هيئة، ووعاءً من اللغة، وليس لها مراحل واضحة، لكن يمكن بشيء من التقنين أن نقول إنّها تمرّ بمراحل ثلاث: الاكتشاف والتدريب- والنضج والتميز- والاكتمال والتوهج، ولعلّه من فضول القول هنا أن ذلك لا علاقة له بالعمر الزمني للشاعر إلا بوصفه أحد عوامل اكتساب الخبرة، فقد نجد شيوخًا شاب شعرهم وهم في الشاعريّة أطفال، وقد نجد شبابًا انتبه لموهبته مبكرًا ، ثمّ نمّاها فأينعت وآتت أكلها في سنٍّ مبكرة، العمر هنا عمر القراءة، والذكاء والتقاط الخبرات سريعا، ولنا في الراحلين: طرفة بن العبد، أبي تمام، أبي القاسم الشابي - أمل دنقل أمثلة على ما أقول.

الشاعر في كلّ قصيدة يهبها كلّه، هذا هو الشكل الأمثل للقصيدة، ولكلّ قصيدة كلٌّ من الشاعر، فلو صحّ أن نقول لقلنا: إنّ كلّ قصيدة يكون الشاعر لها بكل كيانه، لعلها أشبه بحالة حب جديدة لا تترك لغيرها في القلب مكانًا حتى تأخذ مكانها في الديوان وفي التاريخ.


- التماهي مع المفردة والمعنى في كل نص يكتبه الشاعر، هل هو أمر مرهق أم أنّ قلق انبثاق الفكرة بوعيها وغيبوبتها أمر لا يذكر حين يطالع الشاعر تقاسيم معشوقته الجديدة؟

الحقيقة هذا أمر مرتبط بالخبرة ومعايشة اللغة، ومتابعة المفردة في عالمها، أو لنقل عوالمها وسياقاتها التي ترد فيها، فليس هناك أعقد من اللغة، ودلالاتها، واستخداماتها، وأزعم أن ما قُيد (وقُعِّد) من اللغة لا يمكن أن يكون بمقدار ما ظل عصيّا على التقعيد والتقنين، ويبقى جزء كبير من علاقة الشاعر بالمفردة، أمرًا ذاتيًّا وعلاقة خاصة، تعتمد على مدى الحساسيّة اللغويّة للشاعر ومقدرته على التقاط ظلالات المفردة، وأماكن توهجها. فالكلمات كالبشر، منهن البطل المهيمن الذي يتصدر المشهد الشعريّ ويسوقه، ومنهن المعين المساعد الذي يكون دوره الخدمة للمهيمن، ومنهن ما يشبه الكومبارس الناطق والصامت، لكن لا يمكن الاستغناء عن نوع من أنواع الكلمات، وإلا فسيكون المشهد ناقصًا ومبتورًا، والشاعر الذكي هو الذي تكون كلماته متنامية كتنامي الشخصيّة في الرواية، وهذه العلاقة الخاصة هي التي تسمح بالتماهي بين الشاعر ونصه، وفي العلاقة الخاصة يمكن أن ينجب الشاعر والقصيدة عالمًا ساحرًا.

علاء جانب

- كيف يمكن للشاعر أن يحافظ على التجديد في شعره دون الوقوع في فخ التكرار؟

التجديد كلمة في غاية المكر، فليس هناك معنى إلا وله سلف، وليس هناك بيت شعر إلا وله نسب، لكن الجدة تكون أرقى ما تكون في الاختلافات الفرديّة، لقد خلقنا الله ببصمات مختلفة، ووجوه متباينة، ومشاعر متغايرة، وفي المجمل لكلّ واحد منا شخصيّة لا تشبه غيرها، الذي يريد التجديد عليه أن يجعل نصّه شبيهًا بشخصه، مع الاهتمام بواجب الصنعة الفنيّة طبعًا، لكن الطعم سيكون مختلفًا. إنّ هناك ملايين البشر يتركبون من الأجزاء ذاتها، لكن كل واحد عالم مستقل. كذلك يجب أن تكون القصائد تعبيرًا عن شخص صاحبها لتكون مختلفة كاختلافه، أما الجِدة المطلقة فذلك أمر مكذوب لا صحّة له.


-النيل، سليل الفراديس (كما وصفه التجاني يوسف بشير) ، هل ألقى بظلاله على تجربتك الشعريّة دهشة وسحرًا؟

قطعًا، ولو كنت عراقيًّا لوجدت لدجلة والفرات عندي ظلالًا، وثمارًا، ولو كنت من دمشق لوجدت لبردى عندي قصصًا تروى، ولو كنت في أمريكا لوجدت للمسيسبي صوره وتجلياته، ولو كنت أوروبيًّا ربما كان الدانوب بطلًا من أبطالي.

الماء ـ يا عزيزتي ـ هو سر الحياة، وارتباط الناس به ارتباط حياة، والنيل أقدم أنهار الدنيا، وأكثرها أساطير، هو الذي قامت أقدم الحضارات حواليه، الكلام عن النيل يطول والشجن كبير، لكن النيل هو سر الشخصيّة المصريّة، العذبة، السمحة، والكريمة المتسامحة، الشامخة التي تسير إلى غايتها في غير جلبة ولا صخب.


يا نيلُ، يا وجعَ السنين يمرُّ في.. صمتي فيورق بالحنين كلامي

يا خاطرَ الرحال يستبق الدنا ... فالكونُ فيك علامة استفهام

فرعاك من فوق الخريطة شكّلا .. نصرًا يشير بإصبعي مقدام

خبأت للسبع العجاف سنابلًا... وجريت في قلمي وفي إلهامي

ورويت ما فرقت حين رويتنا ... هذا مسيحيٌّ وذا إسلامي

- كيف استطعت أن تمسك صولجان الشعر فصيحًا وعاميًّا؟ وأيُّهما يجعلك أكثر وضوحًا أمام المرآة؟

أنا لم أولد بملعقة من ذهب في فمي، لكنني عشت تجارب البسطاء في أقسى ما يمكن أن تصل إليه، ليس لفقر ولا عوز، فنحن ـ والحمد لله ـ بيت مستور الحال من أوساط الناس، وطبيعة الحياة في الصعيد المصري توجب تحمل المسؤوليّة صغيرًا، فقد كنت دون الثامنة مسؤولًا عن عدد من النعاج والمعز أرعاها لبيتنا، وأعرف أنّه إذا ضاعت منها واحدة فسأعاقب، وكنت بعد البلوغ مسؤولًا عن نفسي مسؤوليّة شبه كاملة في دروسي، ومصاريفي، وبعد وفاة الوالدين - رحمهما الله - دون الثامنة عشرة كنت مسؤولًا حتى عن إعداد الطعام لنفسي، والغسيل، والكيّ، فضلًا عن كوني طالبًا متفوقًا أحصل على المركز الأول دائمًا في ترتيبي بين زملائي من الابتدائيّة وحتى السنوات الجامعة. ذلك أكسبني مهارة اللغتين: الفصحى لغة التعلم والتأدب، والعاميّة لغة الحياة والممارسة اليوميّة مع عوام الناس. من هنا استطعت التعبير بكلتيهما، ولا أرى بينهما إلا تكاملًا، يشبه تكاملهما في شخصيتي، فأنا مع الوزراء وزير، ومع البسطاء بسيط، ولكلّ من التعبيرين حاجة إليه، وجمهور يطالبني بأن أكون معبرًا عنه.

علاء جانب

-في عالم الذكاء الاصطناعي وثورة المعلومات، تثار قضية الإرث الحضاريّ والثقافيّ وكيفيّة التجديد الذي يثري ويضفي ألوانه المقنعة بشكل لا يطغى كليًّا على الصورة المتكاملة للهُويّة الثقافيّة، كيف تقرأ إحداثيّات ذلك؟

لا أثق كثيرًا في المقولات الحداثيّة، خصوصًا منها ما يتعلّق بالعولمة، وابتلاع الحضارات لصالح حضارات، واغتيال ثقافات لصالح ثقافات. أنا مؤمن بالتنوع، وأنّ معنى الحديقة في اختلاف زهورها، وتجاور الأشكال والألوان، وأنّ الحياة لا يمكن أن تكون لونًا واحدًا، لذلك أحبُّ لكلّ أمة بمثقفيها وفنانيها وكتابها وموسيقييها، وكل ما فيها أن تستمسك بأصولها، وأن تبني على قواعد أجدادها، بدون عدوان أو ظلم أو توسع استعماري بغيض. ونحن أمة عظيمة قادت ركب الإنسانيّة زمنًا طويلًا، وانتقلت بها من ظلمات التخلف والجهل إلى نور التقدم والعلم، نحن أمة (تتورك) على تراث إنساني وحضاري ضخم، يمكن أن ننطلق منه لو أخلصت القلوب وحفزت الهمم.

-قال جبران خليل جبران "نحن أبناء الكآبة. نحن الأنبياء والشعراء والموسيقيّون" قالها وهو شاعر، فنان ورسام. هل تكفي هذه النظرة لواقع تعيشه المجتمعات اليوم؟

مقولة جبران قالها مطلع أول قصيدة عربية: قفا نبك ... المسألة ليست كآبة لذات الكآبة، وإنّما الذي يفهم الدنيا يجد كلّ شيء فيها يقود إلى الألم. فكل ما فيها إما مفارِق أو مفارَق، ولولا الإيمان بالله لأصبح الإنسان عرضة للتمزق النفسيّ الذي سيؤدي بالضرورة إلى إحباطـ، وقنوط، ويأس تستحيل معه الحياة. والعقلاء منذ إدراكهم يركب على عقولهم هاجس الزمن فلا يكاد عاقل يهنأ بلذة، وقديمًا قال الشاعر:


لا طيب للعيش ما دامت منغصة ... لذاته بادكار الموت والهرم

نحن مسلمون، ولنا في نبينا صلى الله عليه وسلم قدوة، ونبينا لم يركن إلى الكآبة، ولا استسلم للانهزاميّة، بل وقف وحيدًا يمارس الحياة بكلّ أشكالها: تعليمًا، وحبًّا، وحربًا، وتجارة، وسياسة، وضحكًا، وبكاء، لذلك علينا الانخراط في الحياة حتى الموت.


-من له الحق الأول في شاعرية علاء جانب؟

الأزهر الذي تعلمت فيه كل شيء نافع، حفظت القرآن، وقرأت الشعر، وتعلمت الحبّ، والوسطيّة، وقبول الآخر، وعرفت نفسي، وعرفت الله، وعرفت الكون، والناس، والأشياء، الأزهر هو صاحب الحق الأول.


-من يغازل الآخر أولًا؟ القصيدة أم الشاعر؟

القصيدة هي الأنثى التي تطلب لكنّها لا تفصح، فتظهر كأنّها المطلوبة، وهي التي بعينيها تحرك النجوم، وتدفع موج البحر، وتوجه الرياح، وتحدد مواقع السحاب.

القصيدة إنّ صحّ تصوّرها بوصفها كيانًا منفصلًا هي التي تغازل الشاعر، بل وتدفعه دفعًا إلى عالمها، والواقع أن القصيدة من الشاعر والشاعر من القصيدة، كلاهما يتكاملان ويتغازلان ويتفاعلان.


أنا من سرقت النار من وادي العمى ... وجررت حزن الأمهات ورائي

علاء جانب

علاء جانب







Comments


bottom of page