حجــــــــــــــــــــر
سامي الكيلاني
فلسطين/كندا
قصة قصيرة
لا تستغربوا إن تحدثت معكم وجهًا لوجه، ولا تقولوا هذه أضغاث أحلام، فأنا فعلًا أتحدث معكم. قد تتفقون بأنّني أتحدث معكم بلغة الجمال أو بلغة الفنّ، أو أي اسم تختارونه للغة التي أتحدث بها، وربما مرّ على مسامعكم هذا الاصطلاح أكثر من مرة، نطق الحجر، أنطق فلان الحجر، حين صنع منه تمثالًا. إذا وافقتم على هذه اللغة، فأنا أتحدّثها الآن. مكتوب على وجهي الأول ’إني اخترتك يا وطني‘، وعلى وجهي الثاني حُفرتُ يدٌ مقيدة بقيد مكسور وترسم علامة النصر. أليست هذه لغة؟ أليس الجمال لغة؟ فأنا أتعلق بهذا العنق الجميل، وأرتاح على هذا الصدر الأنثويّ الجميل. باختصار إنّني محظوظ جدًّا بهذا الموقع، بهذا التشكّل الذي صرته، لكنّني لم أصل إلى هذه الحياة إلاّ بعد طول معاناة.
عندما تقدمت الجرافة من المنطقة التي حملتني إليها مياه السيول منذ سنوات لا يستطيع أحدٌ عدّها قلت في نفسي "انتهت حياة الهواء والشمس، سنطمر في مكان ما لتمتلئ بنا إحدى الحفر، وستعلونا طبقة من الإسفلت، وسأصبح في خبر كان". حاولت وداع الشمس والهواء وأنا أسقط من فمّ الجرافة إلى قعر وعاء الشاحنة. تحرّكنا مسافة طويلة قبل أن تتوقف الشاحنة ويرتفع وعاؤها إلى الأعلى، سُحلنا منها وجاء حظيّ لأكون على سطح التلة الصغيرة التي تكوّنت، حمدت الله على هذه العودة إلى حياة الهواء والشمس، كان حظي جيِّدا أيضًا حين فردت جرافة أخرى التّلة وجعلت منها سطحًا مستويًا، إذ بقيت على السطح. اشتدت حرارة النهار، أدركت أنّنا في صحراء. انصبّ علينا كثير من الماء، ثم مرّت فوقنا مدحلة ثقيلة، تماسكنا مع الأرض بشكل قوي، انغرست في الأرض لكن وجهي بقي مكشوفًا يواجه السماء. ظللت أفكر أنا وأصدقائي الحجارة بهذا المكان الذي أصبحنا فيه. لم ندرك في البداية من الأمر شيئًا، فلم يرَ أحد من أجدادنا الحجارة منظرًا كهذا، ساحة واسعة تحيط بها الأسلاك الشائكة الممدودة على أعمدة حديديّة قصيرة. نصبت خيام كثيرة، وتوحّدنا نحن والأسلاك والحديد والخيام.
وفي يوم من الأيام، امتلأت الساحة بالأقدام، أقدام كثيرة تروح وتجيء فوقنا. كانت فرحتنا بقدوم البشر أكبر بكثير من ألم الدوس علينا، فنحن حجارة ولا تهان كرامتنا إذا مرّ البشر فوقنا.
وبعد فترة من وصول هؤلاء الرجال الذين يلبسون ملابس زرقاء ويقضون وقتهم كلّه في الساحة المحاطة بالأسلاك، قرفص أحدهم فوقي، سكب قليلًا من الماء عليّ ثم تفحص لوني، لم يستطع أن يقرّر قيمتي من النظرة الأولى على ما يبدو، فانتزعني من الأرض بمسمار كبير، ثم أعاد سكب الماء عليّ، وبعد أن تشاور مع شخص آخر قرفص بجانبه قررا أنّني لا أصلح. لم أدرِ ما هو الشيء الذي لا أصلح له، لم أدرك الأمر إلاّ حين سكبا الماء على حجر مجاور وأظهرا إعجابًا كبيرًا بلونه. انتزعه الأول من الأرض وغسله جيّدًا، تأمّله وقال لصاحبه "سيكون عقدًا جميلًا". جلسا وتشاورا ثم قررا شيئًا، أخرج الأول مسمارًا صغيرًا وبدأ بالحفر والنحت على جاري السابق، ثم مضى إلى ظل الخيمة ليكمل عمله. حسدت جاري كثيرًا على هذا الاتجاه الجديد الذي يسلكه في حياته. سيكون تحفة، سيحتفظ به في بيت ما، أما أنا فسأبقى هنا دون عمل أو قيمة تذكر.
استمر إهمالي إلى أن جاء يوم. حملتني يد إلى خيمة وهناك وضعت في كيس بلاستيكي تمتلئ جنباته برائحة الخبز ثم وضعت ورقة بجانبي وربط الكيس بإحكام، قذفتني يد قوية في الهواء فطرت فوق الأسلاك الشائكة وعبرت إلى الساحة المجاورة. تناول أحدهم الكيس وفتحه، وأخرج الورقة وقرأها، وكتب ورقة غيرها ووضعها إلى جانبي في كيس آخر ثم أعادني إلى الساحة السابقة بالطريقة نفسها. تكرر طيراني من قسم إلى آخر كلّ يوم. أعجبتني اللعبة ولكنّها لم تعوض حسدي لجاري القديم، وبقيت أفكر في العزّ الذي يعيش فيه الآن.
جاءني الحظ، أو كما تقولون ‘رب ضارة نافعة’. سقطت على وتد معدني من الأوتاد التي تشد إليها حبال الخيام، كُسِر جزء مني، فتح شخص الكيس، وضعني جانباً، وبدأ بقراءة الورقة. التفت إليّ فجأة. حملني وتفحصني ثم تحدث مع صديق له. أظهرا إعجابًا بلوني الذي ظهر بعد الكسر. سكب الماء على قطعة من الباطون كانت أرضية للحمّام ثم بدأ بعمليّة حتٍّ مؤلمة فقدت معها أجزاء كثيرة من حسمي، أصبحت قطعة مسطحة الوجهين، ثم بدأ بإعطائي شكلًا دائريًّا، لنتُ له، وأصبحت كقطعة عملة سميكة، كتب على وجهي الأول كلمات وأبرزها نحتًا، وعلى وجهي الثاني نحت رسمًا.
خبّأني صاحبي يوم خروجه من القسم في مكان لن أكشف عنه الآن لأن آخرين غير صاحبي يستعملونه لإخراج حجارة مثلي. وقف صاحبي وأصدقاء له أمام جندي صارم الوجه ليفتّشهم، ضبط الجندي حجرًا مع أحدهم فأخذه ورماه في برميل القمامة، خفت على نفسي، تشبثت في مخبئي، وانتهى التفتيش دون أن يكتشفني الجندي.
وصل صاحبي بيته بعد سفر طويل، كان في انتظاره جمع كبير من البشر بينهم هذه الفتاة التي أتعلق بعنقها الجميل، أخرجني من مخبئي وعلقني بعنقها. نسيت أن أقول لكم إنّه جدل هناك خيطًا خاصًّا وربطني به. قال لها إنّه سيشتري لها سلسلة ذهبيّة بدلًا عن الخيط، لكنّها لم توافق وآثرت الخيط. فرحت كثيرًا لرفضها، فما لي وللذهب، فهذا الخيط صديقي، خرجنا معًا من المكان نفسه، وشاركني محنة الاختباء والخوف لحظة التنفتيش.
Comments