تأثير نظرية النظم الشفاهي على تلقي المستشرقين للشعر الجاهلي
دكتور عبد القادر مهداوي
أستاذ النقد الأدبي/ جامعة الجزائر
في خضم بعث روح جديدة للآداب القديمة، وبُغية إحلال إمكانية للمساهمة في رفع بعض اللبس عنها، يأتي مشروع كل من: "ميلمان باري" Parry Milman. (1902-1935) ومن بعده تلميذه في البحث والميدان "ألبرت لورد" Albert Lord (1912-1991) حيث قادهما الأمر إلى وضع نظرية تتناسب وطبيعة هذه الآداب من ناحية شفاهيتها، أُطلق عليها اسم النظرية الشفاهية، محاولَيْن تطبيقها على هذه الآداب غير المدونة في عصرها الذي لم يكن يعرف التدوين أو يتعامل به.
التعريف بالنظرية الشفاهية: -«نظرية التقاليد الشفاهية» وقد اقترنت بالثورة التي أحدثتها في الدراسات الهومرية (نسبة إلى الشاعر هوميروس) الذي ما يزال وجوده محاطًا بالشكوك، فنظام الصيغ عند (باري) هو: "مجموعة من العبارات التي لها القيمة الوزنية نفسها والتي هي متشابهة بدرجة كافية في الفكر والكلمات بحيث لا تترك شكاً في أن الشاعر الذي كان يستخدمها كان يعرفها ليس فقط بوصفها صيغاً مفردة بل كذلك بوصفها صيغاً من نمط بعينه "[1]
وقد قادت هذه النظرية بعض المستشرقين إلى أن يطبقوها على الأدب العربي الجاهلي، وفي مقدمتهم المستشرق "مونرو" في كتابه الذي عرف باسم «نظرية التقاليد الشفاهية» وفيه جادل كثيراً وأفاض النقاش حول أصالة هذا الأدب، فحمله محمل التقاليد الشفاهية بالمعنى الذي حدده باري ولورد من قبل، مستنداً في "تفسيره إلى تناول دقيق للكثافة القائمة على الصيغة، والفروق بين الصيغة الخالصة والنظام القائم على الصيغة، والصيغة البنيوية واللغة المتحولة إلى لغة تقليدية، وهو ومن ثمة يمضي إلى فحص الصيغة في شعر ما قبل الإسلام مع إلقاء الضوء على مشكلة الأصالة في هذا الشعر، وهو يقارن بين الأبيات العشرة الأولى من أربع قصـــــــــــــــــــــــائد هي: معلقة امرؤ القيس، ومعلقة لبيد، وقصيدة للنابغة الذبياني، وأخرى للزهير بن أبي سلمى، وهي تمثل الأوزان الأربعة الرئيسة في الشعر الجاهلي: الطويل، والكامل، والبسيط، والوافر؛ وهو ينتهي إلى نقد لنظرية ابن قتيبة عن الأجزاء الثلاثة للقصيدة ويقترح أنّ التحليل القائم على الصيغة يمكن أن يستخدم من أجل الوصول إلى فهم أكثر عمقاً للمدارس الفنية، والحقب التاريخية في الشعر الجاهلي؛ وهو يؤكد على أنّ القصيدة كانت من جهة محافظة من حيث احتفاظها بمفردات بعينها، تجد مواضعها في البيت عروضياً، من جهة أخرى كانت القصيدة دينامية في قدرتها على التغير عبر الزمن، الأمر الذي ساعدها على استيعاب عناصر إسلامية، وهو ينتهي إلى أن القصيدة تأسست على الصيغة إلى حد أن الأوزان العربية المعقدة لا تعد نتاجًا للشعر، لكن النظام القائم على الصيغة، هو الذي يعد نتاجاً للأوزان"[2]
وإننا لنجد الأمر هذا مع المستشرق "زويتلر"Michael Zwettler والذي نلفيه يقيم دراسته عام 1978 على معلقة امرئ القيس ويحللها تحليلاً قائماً على الصيغة، وهو يفسر البنية الموضوعية للقصيدة على اعتبار أنها علامة بالغة على الإنشاء الشفاهي؛ وفي الفصلين الأخيرين نجده يصف ويناقش طبيعة التنوع الأسلوبي ونسبته داخل التقليد العربي الكلاسيكي، وراح يقدم رؤيتة للشعر الجاهلي من خلال مبادئ النظرية الشفاهية.
تتعدد الأسباب لعدم مجاراة ما أشار إليه مونرو من منطلقات لا تدعو للشك في أن الآداب كلها تتحرك بالطريقة ذاتها، وتتشكل بالتقاليد والمبادئ نفسها، وذلك حين تعرّض للأدب الجاهلي في سياق عرضه للأدب اليوناني وبخاصة الإلياذة والأدب اليوغسلافي الذي وصفه بالشفاهية وبالإسناد القياسي، و لذلك فإنه قد راح عموم حكمه يميل إلى تحقيق المشابهة بين كلا الأدبين، وبمنتهى الوضوح ذهب واصفاً الأدب الجاهلي بالشفاهي، وإننا لا نعتقد بصحة القول، وإن كان له حق امتلاك نسبية الطرح "[3]
إن ما ذهب إليه مونرو وباري ولورد باعتماد الصيغة النمطية في الشعر الشفاهي ميزةً أساسيةً له من منطلق شفاهي، قد كان دائماً يعني ما يسيّر المنشد في النص الواحد، ولا يثبت النص بصورة واحدة؛ فيجعله يتغير ويتبدل، ولكنه يظل نصاً واحداً كما هي الإلياذة"[4] فالنمط هو ما يوجه المنشد في كل أداء بما تقتضيه الحالة الإيقاعية ضمن التسلسلات التصاعدية لوتيرة الحس والشعور؛ والذي يصاغ في عبارة تشد كامل النص إليها في نغم متوازٍ قابل للتغير والتبدل.
وعلاوة على مبدأ و مفهوم الصيغة، فالنص الجاهلي يقع في وجهة مخالفة تماما لهذا المبدأ؛ حيث إن هناك الكثير من الأساليب والأنماط الفكرية الواضحة والمتجلية في بعض النصوص التي تجمعها الكثير من التماثلات والتشابهات، كما أنها تشكل تداخلات نصية تصنع النمط المتكرر والمتواتر بين نصوص مختلفة زماناً ومكاناً، ما من شأنه أن يوجه النص على الدوام، فالشعر الجاهلي في شكله البنائي هو ذلك الشعر الذي تحدث عنه عبد الله الغذامي في كتابه المعنون بـ "القصيدة و النص المضاد" بكونه نصاً ثابتاً مغلقاً لا يعتريه التغير والتبدل، وإن حدث بعض الخلط والتبعثر؛ فإنما هو من فعل الرواة كما يذكر ويؤكد التاريخ الأدبي والنقدي بين ذاكرة النص وذاكرة الراوي كما يعلن الغذامي.
صحيح ما كان معروفاً عن الرواة أنهم "كانوا ينحلون شعر الشاعر ويزيدون فيه، ممّا يعني أن الخلط هنا هو خطأ من الرواة وليس تقليداً شعرياً، وهذا هو أول مآزق مونرو إذ إنه بنى أحكامه على أخطاء الرواة وليس على تقاليد الشعر، كما أنه لم يبذل أي جهد للتمييز بين ما هو (نمط شعري) وما هو خلط، أي أنه لم يميز بين النمط الدخيل والنمط الأصيل"[5] وهذا ما يفسر عدم وصوله لنتائج مقنعة ..
يقول فرتس كونكوف (1872 ـ 1953) Fritz Krenkow "وأكاد لا أكون في حاجة إلى الإشارة إلى أن في القصائد القديمة إنما هي إشارات عديدة إلى وقائع ومعاهدات سُجلت كتابةً، وأن كثيراً من الشعراء كانوا رواةً لشعراء أقدم منهم، وربما نستطيع أن نضيف أنهم كانوا تلاميذهم في هذا الفن، ومع فن الكتابة كان التلميذ، إن كان موهوباً، يحصّل فن الشعر، وربما كان هذا هو الذي يفسّر إلى حد بعيد، الاتجاه النمطي للتفكير بما فيه من تشبيهات لنفس الموضوعات"[6] وإن كان مرد هذا الأمر إلى قضايا أشد تعقيداً.
إن لكل عصر معجمه الدلالي والتركيبي الذي يكوّنه العرف الأدبي والذي من خلاله يشكل السياق الفني والجمالي، ومن بعده يكون التشكيل الأسلوبي العام الذي يتولد نتيجة لفاعلية المأثور النصي والذي لا يلغي وجود الخصوصية والتفرد طبعاً؛ حيث تعد القصيدة الجاهلية "الشكل الموحد والثابت والمتطور من الناحية الإنشائية وقد اندرجت في القصيدة جميع أنواع الشعر العربي عدا الرثاء والهجاء اللذين يقومان على المقطوعات المرتجلة، وليست هذه الأغراض الشعرية في حقيقة الأمر كثيرة فهي: الغزل والوصف والفخر"[7]... وغيرها من الأغراض لا تكون إلا معبرة على مضمون الشعر الذي لا يمكن أن تمليه اللحظة وتسطره البديهة. فمضمون الشعر هو وليد تأمل متفحص ومتأن و طول نظر، ودقة في تشكيل المعنى، وشمول في الدلالة.. "إن الأفكار ... وحدها هي التي كانت تنتج القصيدة- والتي لم تكن تتدفق على الشاعر على نحو وافر يسمح له أن يرسل مقداراً من الشعر كبيراً في خلق متواصل يتم في اللحظة"[8] فلا يمكن أن نجد مكاناً للشفاهية فيه؛ رغم وجود التداخلات النصية في النماذج الجاهلية.
رغم أن (مونرو) أعاد ضبط مفاهيم (باري) و(لورد) بما يتناسب والنص الجاهلي، إلا أننا نجده "لم يفلح في استنباط تصور نظري يحل له معضلة ذلك التداخل"[9] بين نصوص هذا الأدب، أين حلت الروايات محل النصوص الأصلية. فالتنظير حصل عنده للنص البديل لا للأصلي، ومنه استنبطت الأنماط الشعرية والأعراف الإبداعية والتقاليد الأدبية انطلاقًا منها.
ما كان للشعر الجاهلي من شفاهية إلا ما كان من روايته، التي تأثر بها من بعد ووسمت شكله بفعل الرواة وصنيعهم لا من صنيع الشعراء، فالنص الجاهلي الأصيل لا يمت بصلة للشفاهية، فإن كان لا بد له من انتماء ونسبة فهو للكتابية أقرب وأنسب؛ ذلك ما دامت الخصوصية موجودة والتفرد قائمًا، ذلك مع أن تداول النص الجاهلي وتناقله الشفاهي لا ينفي عنه صفة الكتابية التي هي صفة الإنشاء والتأليف فيه، حيث يحكمه تفرد التركيب وخصوصية الدلالة، وهو شعر سُطِّر على الورق، فليس لنا دليلاً على نفي هذا الأمر كي ندعي بأن الشعراء كانوا أميين لا يعرفون الكتابة، وحتى وإن كان الأمر كذلك فلربما يكون للشاعر رفيق كاتب يكتب عنه أو غير ذلك، بما عرف قديمًا بأن لكل شاعر راوية يحفظ شعره ويروي عنه قصائده.
على كل حال، إن الشاعر قد كان يُسَطِّر تداعيات هواجسه في ذهنه دون أن يسطرها على الورقة، عندما ندعي قلة وندرة الأوراق والصحف في البيئة العربية، ليس لنا بحال من الأحوال أي مهرب في أن لا نلصق صفة الكتابة على الشعر، سواء كتابته في الذهن أو كتابته على الورق. فالورقة والقلم لا يعنيان أبدا لأي كلام دُوِّنَ بواسطتهما بأن يكون كتابياً محضاً؛ فقد يكون شفاهياً، ما لم يتوفر فيه التفرد والتفوق على الكلام العادي، وهذا الذي ندعيه بالشفاهي، إذن لا هو من هذا ولا من ذاك.
إننا نجد أن (فون كريمر) يقدم لكلمة المعلقات إذ يقول بأنها تعني القصائد التي علقت أي كتبت عن إنشاد الرواة وكانت كلمة "علق" في وقت متأخر تعني ينسخ أو يكتب عن إملاء بدون انقطاع لكننا لا نكاد نعثر على هذا المعنى في العصر القديم إلا نادراً، ثم أن نسخ القصائد أمر مشكوك فيه، حيث أجمعت كل المصادر على أن حماداً الراوية كان أول من جمعها وأذاعها"[10] لكن يبقى أن وجود الكتابة رغم قلتها قد كان موجوداً عند العرب "فإذا كانت القبائل تقيد عهودها ومواثيقها، أفلا يصير من المنطقي إذ ذاك أن نتقبل أنها كانت تقيد شعر شعرائها الذين يدافعون به عن حياضها، ويذودون به عن أمجادها، ويسجلون به وقائعها وأيامها، ويعددون فيه انتصاراتها ومآثرها ؟"[11]
لقد أكدت بعض الدراسات بأن تدوين الشعر لم يكن عملية هينة مثلما كان إنشاده، وهذا يعود إلى عفوية القول الشفوي وانسيابه واستحكام القول المكتوب وتقنينه، ثم إن ميل الناس الفطري لما سلف من عاداته، يعد عاملاً جوهرياً في إضفاء صعوبة على تدوين الشعر، وإن الانتقال في أنظمة التواصل من اللفظ إلى الكتابة هو تحول في بنية العقل العربي في سيرورة تشكله من الجاهلية إلى الإسلام، بيد أن هذا التحول لم يكن بإقصاء أو تهميش أحد مكونات العقل العربي، بل إن هناك تكاملاً بين العقلين الكتابي والشفوي"[12]
[1] - والترج اونج: الشفاهية والكتابية، تر: عز الدين حسن البنا، عالم المعرفة، سلسلة كتب ثقافية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت، 1978، ص23.
[2] - ينظر: نفسه، ص30.
[3] - ادوارد ســـــــعيد: العالم والنص والناقد، تر: عبد الكريم محفوظ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2000، ص15.
[4] - عبد الله الغذامي: القصيدة والنص المضاد، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994، ص26.
[5] - نفسه ، ص23.
[6] - دراسات المستشرقين حول صحة الأدب الجاهلي، تر، عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، ط1، 1979، ص304.
[7] - اغناطيوس كراتشكوفسكي: دراسات في تاريخ الأدب العربي، دار النشر علم، موسكو، 1965، ص10.
[8] - دراسات المستشرقين حول صحة الأدب الجاهلي، ص66.
[9] - عبد الله الغذامي: القصيدة والنص المضاد، ص27.
[10] - ينظر: دراسات المستشرقين حول صحة الأدب الجاهلي، ص71.
[11] - نصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، دار المعارف، ط 5، 1978، ص109.
[12] - مذكر ناصر القحطاني: رواية الشعر : قراءة في "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" لناصر الدين الأسد، مجلة الأثر، ع26 ، 2016، ص100.
Comments