top of page

الانزياحات والتراكيب اللغويّة

تاريخ التحديث: ١ نوفمبر ٢٠٢٣


د. أسامة تاج السر

الانزياحات والتراكيب اللغويّة

رسائل في بريد الشعراء

د. أسامة تاج السر


ها نحن نلتقي مجدّدًا في طريق الشعر، إذ نحاول معًا يا شاعري، أن نقف على أهمّ مقوماته، فبعد أن وقفنا قليلًا على المباني، من خلال الحديث عن الأوزان، والمعاني من خلال الحديث عن موافقة الألفاظ معانيها، نأتي هذه المرّة للحديث عن التراكيب وصياغتها، وهذا أوان التفاصيل.

فلتعلم يا شاعري، أن الشعر صنعة، وكلّ مهارة صنعة، وإحكام الصنعة يحتاج طول تجربة ومراس، ولا بدّ من مواد أوليّة يتكئ عليها الصانع، وهي في الشعر خمسة:

الوزن والقافية: هما عماد لا بدّ من معرفته وإتقانه، حتى لكاتب قصيدة النَّثر، الذي يهملهما معًا في شعره، فالجهل بهما يجعل التجديد عسِرًا، إذ كيف تأتي بجديد وأنت تجهل القديم؟ وبذا أقول لك: إنهما لا كالإطار بالنسبة للوحة، بل هما جزء من الألوان التي تلوّن بها، إذ يمكن للرسام أن يستغنيَ عن الإطار، ولكنه لا يستغني عن اللون.

النحو والصرف: هما عماد الكلام، وبهما يعرف الصواب والخطأ، فبالنحو يعرف الشاعر ما يخصّ أواخر الكلم إعرابًا وبناءً، والتغيير الذي تحدثُه العوامل، وبالصرف يعرف بنية الكلمة وضبطها وجمعها واشتقاقها، والتغيير الذي يحدثه الإعلال والإبدال. فاجتهد يا صديقي في معرفتهما، ولتعلم أنّهما أداتان لا غايتان، والعلم بهما لا يجعل منك شاعرًا، لكن الجهل بهما يخصم من قيمة الشاعر الجليل، بل لا يكون الشاعر جليلًا وهو ناقص الأدوات.

اللغة: هي المادة التي يشكل منها الشاعر لوحاتِه، ومنحوتاتِه، فلا هويّة للذي لا يملك ذخيرة كبيرة من الكلمات، فمحدود المعجم محدود الفكرة، لأن الإنسان لا يستطيع التفكير إلا من خلال اللغة، فربّ كلمة تفتح المغاليق وتغير بوصلة القصيدة إلى وجهة لم تكن ببالغتها إلا بها. ومحدود اللغة محدود المعاني، فقلما يلقاك المعنى عاريًا بغير لفظ يستره.

تلك يا صديقي، مجتمعةً هي التي يحتاجها الشاعر ليقول شعرًا، ومعرفة الشعراء بها متفاوتة، وقليلها قد يغني عن كثيرها. ولتعلم يا شاعري، أن اجتماعها لن يخلق للشاعر صوتًا يُعرفُ به بين الناس، بل لا بدّ له من أمور فوق ما ذكرنا، وهي التي سنقف عندها يا صديقي، في هذه الرسالة.

العبارة، والتراكيب، والانزياح، والتناص:

هذه إبهام الشاعر، وفي الإبهام البصمة، بلى قادرين على أن نسوّيَ بنانه!.

فلتعلم يا صديقي، أن لنزار قباني من قصائد الحبّ ألف قصيدة قالها سواه، وللفيتوري ألف قصيدة في الثورة والزنوجة قالها سواه، ولدرويش نصف قصائد شعراء اليوم، وللمتنبي أضعاف ذلك من الشعر.

_ وكيف تكون للشاعر قصيدة لم يقلها؟

تحضرني طرفة ههنا وقعت بين أبي نواس وصديقه الحُسين بن الضحاك. إذ سأل الحسينُ أبا نواس قائلًا: أنا في الخمر والمجون أشعر منك، فلماذا يذيع شعرك ولا يذيع شعري؟. فقال له: لأنك تكتب بطريقتي لا بطريقتك.

إذا كان الصرف يختص بالكلمة الواحدة، فإن النحو يختص بالجملة، بينما العبارة تختص بالفكرة كاملة، وتتكون من عدد من الجمل، وإحكام العبارة يعني إحكام أجزائها، جملة كانت أم مفردة. ثمّ لا بدّ للشاعر من تراكيبه الخاصّة، التي تصير كالقوالب، ومتى استخدمها غيره، ظهرت آثاره وروحه فيها. وقد صارت البلاغة جميعها تُختصر في الانزياح، وهو الخروج عن النسق المألوف، إلى نسق جديدٍ ذي دلالة، وهو بهذا يختصر علمَي المعاني والبيان كليهما، وهما عماد البلاغة بلا شك. ثمّ لا بدّ للشاعر من ثقافة، وإظهار هذه الثقافة عبر التناص، فيه إيجاز كبير، وتخصيب أكبر للمعاني والأفكار.

ثم اعلم يا رعاك الله، عندما تجمع ذلك كلّه، فأنت شاعر بحقّ، وجِماع هذا كله لا يجعل الناس متساوين، لأنّ الفروق الفرديّة شيء أصيل في كل الناس، لكنّهم وإن لم يتساووا فقد امتلك كلّ واحد بصمته، وبالأسلوب يعرف المرء لا بسواه.

ثمّ أمّا بعد، فعسى أن نلتقي في رسالة رابعة، نبحث فيها معًا اتجاه الخطاب وأثره على مكانة الشاعر.









Comments


bottom of page