الأدب العابر وثقافة الهامش
أ.د/ منتصر نبيه محمد صديق
عزيزي القارئ، هل فكرت ذات مرة في طبيعة وخصائص الأدب الذي تقرأ أو تشاهد على وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل أحسست أن هذا الأدب يختلف عن الأدب التقليدي ذي الوسيط الورقي؟ هل كتبت ذات مرة قصيدة أو بيت شعر على وسائل التواصل، ووجدت عشرات التعليقات، ليس من المحيطين لك فحسب، ولكن من مستخدمين في أماكن ودول بعيدة، ربما لم تكن حتى سافرت إليها من قبل؟ وهل شعرت أنّ هذا النوع من الأدب يمنح حريّة الإبداع للفرد، بمعنى ظهور سلطة الفرد أكثر من سلطة الأعراف والقوانين؟ وهل سألت نفسك من قبل: لماذا يمكن تسمية أدب وسائل التواصل الاجتماعي بالأدب العابر، وما علاقته بثقافة الجزء في مقابل الكل؟
عزيزي القارئ:
إنّ التصور الذي يعكس تجربة الأدب العابر، أو ما يمكن تسميته بأدب وسائل التواصل الاجتماعي ينطبق على ثقافة الهامش التي أبان عنها تيار ما بعد الحداثة، إذ إنّ هذا الأخير تبنى الفردانيّة، والتشتيت، والفوضى، وكذلك اللا مركزية، وعدم الوقوف عند التصورات العامة أو المطلقة، وكان الأدب العابر أحد منتوجات هذه الثقافة، وصورة من صورها، كما إنّه يمثل نوعًا إبداعيًّا جديدًا، استطاع أن يجد له حضورًا بين الأنواع الأخرى التقليديّة.
ويمكن الحديث عن تلك المقاربة النوعيّة باستقراء مقومات ذلك الأدب الجديد/ العابر، والوقوف عند نماذجه الإبداعيّة المختلفة، سواء ما أشبه منها ما هو تقليدي، أو ما مثل تفردًا إبداعيًّا عبرت خصائصه وسماته عن هذا النوع. كما أنّ لفظة (العابر) لا تشير إلى تجاوز البعد المكانيّ فقط، بقدر ما تشير إلى التجاوز الأجناسي للأدب، وعدم الوقوف عند جنس محدد وقائم بذاته كما كان يعرف الأدب من قبل، فنحن هنا أمام أدب تتداخل فيه الفنون والأشكال والإبداعات، ويجمع النص الأدبي الواحد ما بين التخييل والسرد والدراما، فكيف له من تحديد أجناسي مجرد، أو قل إن صحّ التعبير تام ونهائي؟ إذن فكلمة العابر هنا تتعلق بهويّة هذا الأدب شكلًا ومضمونًا، فضاءً ووسيطًا كذلك؛ لأنّ هذا الأدب يعبر حدود المكان، والثقافة، واللغة، ويجعل هناك تواصلًا وترابطًا بين أطراف العالم، كما أنّ له طبيعة مستقلة، وأسلوبًا مغايرًا.
وإذا كان إنسان القرن الحادي والعشرين لا يكتفي بمصدر معلوماتي واحد، ولا بنمط اتصال موحد، وأصبح يعيش في حالة تعدديّة وازدواجيّة، بل لم يعد مستقبلًا فقط، ولكن أصبح منتجًا أيضًا، فإنّ ذلك ينعكس على حقل الأدب، والأدب العابر منه بصفة خاصة، فما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي من أنواع أدبيّة جديدة قادرة على تخطي كل الحدود والحواجز المكانيّة وغير المكانيّة جعل ثقافة الهامش هي التي تسود؛ لأنّ الفرد أصبح – على مواقع التواصل الاجتماعيّ – هو سيد قراره، لا يمكن أن تحجّمه أعراف حاكمة، ولا حدود معينة، بل أصبح يعبر عمّا يشاء وقتما يريد، وأصبح بإمكانه أن يعبّر عن أي موضوع، ويعتنق أي اتجاه متى ما أراد، دون وجود ما يقيد أفكاره، أو يمنع رؤاه.
وتأتي سمات الغموض والإبهام بوصفها أبرز الركائز التي تقوم عليها ثقافة الهامش داخل وسائل التواصل الاجتماعي، بل هناك تناقض في الوعي، والتباس في الإدراك؛ لأن الفرد أصبح يستقي معلوماته من مصادر متعددة، ومن طرق شتى، وهذا التعدد جعله في النهاية يمنح رأيه الخاص حضورًا وتميزًا، مما جعل ثقافة الهامش تسود وتنتشر مقارنة باتباعه للقواعد والأعراف القديمة، وكل هذا بدوره يؤثر على خط سير الأدب العابر، ويؤثر في خصائصه.
إنّ الأدب الجديد/ العابر يؤمن بتعدديّة الوسائط، وباختلاف الآراء وتباينها، ويؤمن بهيمنة المتلقي، وأخذ حقه الطبيعي في العمليّة الإبداعيّة بوصفه أحد المنتجين الرئيسيّين في عمليّة الإبداع، فما يتدخل به في النص معلقًا وكاتبًا يجعله يتشارك الحق في ملكيّة النص مع المبدع الأصلي، وكما يقول الدكتور علي إبراهيم الزرقاني في كتابه: قراءة ثقافيّة للقصيدة التفاعليّة: "إنّ هذا النوع من الأدب - ويقصد أدب وسائل التواصل/ الرقمي - "أصبح عابرًا لكافة نماذج الحواجز، وكذلك عابرًا لثنائية المنتج والمتلقي، إذ جعل كلًا من المنتج والمتلقي في حالة واحدة، ولا يتمركز أحدهما على الآخر، جعل هذا من فكرة تلقي الأدب فكرة مغايرة عما هو جار في السابق".
إنّ كلّ نصّ أدبيّ يمكن نشره وتلقيه إلكترونيًّا، يعكس وجهة نظر خاصة ومتفرّدة، وهذه الوجهة تسبح في عالم – عالم الميديا – غير منتظم، وغير محدد بأطر وتقاليد، ومن ثمّ فإنّ الهامش يحل محلّ الامتثال للنموذج المعياري العام، ونقصد الهامش تحديدًا؛ لأن علم السيبرانيّات جعل كل مستخدم على وسائل التواصل الاجتماعي يعيش حريّة مطلقة، فهو لا يخضع لسلطة محددة، ويمكنه التواصل مع من يريد في الزمان والمكان الذين يناسبانه. فالكلمة المطبوعة على الورق كانت أكثر ميلًا إلى الاتجاه نحو المعياريّة والتقعيد، على عكس الكلمة في العالم السيبراني التي تفتقد المصداقيّة، وتفتقد كذلك التبعيّة. ولا أقرب في التعبير من حديث (تيري إجلتون) عن فكر ما بعد التحديث الذي ترتبط به وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يقول في كتابه أوهام ما بعد الحداثة: "إن فكر ما بعد التحديث هو أسلوب فكري يتشكك في المفاهيم التقليديّة للحقيقة، والعقل، والهوية، والموضوعية..... وهو يرى العالم عكس أنماط التطوير هذه، كشيء عرضي وبلا أساس ثابت، ومتنوع، وغير مستقر، وغير حتمي" والأدب العابر بحكم الوسيط الذي يقدم من خلاله (وسائل التواصل)، وبحكم طبيعته المغايرة التي تنتمي إلى تيار ما بعد التحديث فإنّ هذه السمات السابقة التي تحدث عنها (إجلتون) تنطبق عليه بصورة كليّة، ومن ثم فهو –الأدب العابر- يتجه نحو ثقافة التهميش كأحد مظاهر التيار السابق.
يمكننا القول إذن بأن الأدب العابر/ أدب وسائل التواصل الاجتماعي، يعكس ثقافة الهامش التي أنتجها تيار ما بعد الحداثة، فهو أدب مستقل، ويتميز بالخصوصية الفرديّة، وبانفتاحه على شتى المعارف والثقافات وكذلك الاتجاهات.
Comments